لا أسمع،لا أرى، أتكلم فقط!

لا أسمع،لا أرى، أتكلم فقط!

أذكر جيداً من أين أتت لدي القدرة والإيمان القوي بأني مستمع جيد. 

عندما كانت جدتي – رحمها الله – تزورنا في كل جمعة، تحرص وبشكل كبير على اصطيادي قبل الهروب من الباب الموازي للمجلس لملاقاة اصدقائي واللعب معهم في اليوم الأخير من اجازة نهاية الاسبوع. 

اتلمس يدها التي عانت من شقاء العيش وضنك الكسب الحلال، اشتم راحة العباءة السوداء الحريرية المميزة ممزوجة برحيق نبتة المشموم المقطوفة مباشرة من حديقتها الخاصة. 

ثم تتبدد رغبتي الجامحة في الخروج من المنزل ويتحول تركيزي الى سحر القصة وسحر السرد القصصي الذي اكاد ان أجزم بأن له خطوات عملية أكاديمية مدروسة ومثبتة. 

تتحول التراحيب الى سؤال “شنو غداكم اليوم” ومن بساطة هذا السؤال تبدأ قصة أشبه بقصص ديزني و بيكسار، وتستطرد جدتي قائلة: لقد اصطاد خالك الهامور الطازج من أعماق بحر المحرق، فقلت له مباشرة أحضر لنا جميع المقادير لكي نتمكن من تجهيز وجبة الغداء في أقرب وقت ممكن، فتتسع عيناي وكأني أشاهد فلماً سينمائيًا لا يمكنني التوقف عن مشاهدته ولو لبرهة من الزمن!

في هذه الاثناء، كانت أمي – حفظها الله – تراقب من بعيد وتبتسم وما أن تنتهي جدتي من الحديث عن جزء من الكلام انظر الى أمي فتقول بإنجليزية ضواحي لندن ونيو كاسيل *you’re a good listener* فلم تكن أمي تقلل من مقدرتنا على فهمها ولم تشكك قط في موهبتنا التحليلية. 

تقولها كما تقولها لشخص راشد في مستواها التعليمي العالي .. فمنذ ذلك الحين – وبفضل أمي وتشجيعها – تأصلت لدي فكرة “المستمع الجيد”. 

أتعجب من عالمي اليوم، عالمي الحقيقي .. كيف تحول الحوار والنقاش الى ساحة للعراك وإثبات الرأي، لا يمكنني أن إرخي حبل النقاش ولو لثانية واحدة، فخصمي على استعداد أن ينقض بكلامه في آخر حرف يخرج مني. 

نعم اسميه خصمي، فما نقوم به لا يسمى حوار ولا سرد بل مبارزة بالسيف والكلام .. اصادف في يومي الكثير من المتحاورين الذين لا يستطيعون التوقف لأجزاء من الثانية لأخذ نفساً أو التحضير للفكرة التالية. 

فينتهي نفسه ويعلو هو وصوته عن كرسيه حتى لا يقاطع أحد نقطته. 

أين ذهبت الفواصل والسكتات و “همم” “وفهمتك حقاً” ولغة الجسد ونظرة الفخر فلم تعد تراها ولم نعد نسمع الصمت .. فقط نتكلم. 

احمد بوجيري 

اغسطس ٢٠٢٢

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back To Top
Theme Mode